بين
أغنية " يا فؤادي " لكوكب الشرق أمّ كلثوم وأغنية " بحبّك يا حمار " لسعد
الصغيّر سنوات ضوئيّة عديدة ودروب عنيدة ، تكشف هذه المسافة عن انحدار
الفنّ العربي إلى أسفل درجات الهبوط والابتذال باسم مواكبة العصر ، وتحت
عنوان " الجمهور عايز كده " ، فبالأمس القريب كان للفنّ رسالة
ودور، وتربّت بفضله الذائقة على نمط من الغناء اتّسم بالجودة في مستوى
اللحن والكلمة والأداء ، وعاشت الأذن فترات جميلة مع أمّ كلثوم ومحمد عبد
الوهّاب وصباح فخري ووديع الصافي وصباح ونجاة الصغيرة ومرسيل خليفة وفيروز ،
وكانت بفضل هذه الأعمال الخالدة تعيش في عالم سحريّ أعمدته كلمة رقيقة ،
ولحن جميل ، وصوت شجيّ ، ومع تطوّر العصر، وغزو الصورة لتفاصيل ثقافتنا ،
انقلبت بذلك المفاهيم لتختزل العمل في مفهوم البصريّات القائمة على معادلات
ثلاث نلخّصها في ( العراء – الإغراء – الصخب ) ، وعوّض الإبهار أسس العمل
الناجح التي لخّصناها آنفا في ثلاث ركائز لا رابع لها ( الكلمة – اللحن –
الصوت ) ، وقد فتحت الصورة باب الفنّ على مصراعيه لمن هبّ ودبّ ، بعدما
أصبحت تخاطب العين عوض الأذن ، وتدغدغ الرغبة عوض العاطفة ، فخرجت علينا
أغان كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان من جنس " رجب حوش صاحبك عنّي " وأخرى
تغنّت بالثمار مثل البرتقال والرمان ، فأضحت هذه الأغاني التافهة كما
الطاعون الذي حلّ بمفاصل الجمال ، وجانب الذوق السليم ، ليفسح المجال "
لأيّ كلام " فعوّضت بيوت الاستحمام آهات أمّ كلثوم ومواويل صباح فخري ،
وأصبحت غرف النوم بديلا عن معزوفات الرحابنة ... عجبا لعصر يحتفي بأغنية
تصوّر في إسطبل أو أخرى تقول " أخصمك آه ... أسيبك لا " ، في حين ما يزال
صوت نجاة الصغيرة ورجع صداه في آذاننا " حتى الفساتين التي أهملتها ...
فرحت به ... رقصت على قدميه " ، ولم تشذّ الساحة الفنيّة التونسيّة التي
أنجبت لطفي بوشناق وصابر الرباعي ولطيفة العرفاوي وصوفية صادق وذكرى محمّد
وأمينة فاخت عن القاعدة ، فخرجت علينا أعمال كثيرة لا تدخل في خانة الفنّ
بأيّ حال من الأحوال ، من قبيل أغنية " زنقة زنقة " للهادي التونسي والتي
تقول كلماتها " زنقة زنقة... بيت بيت ...وأنا نلوّج راني عيييت ... على
حبيبي نور العين ..." وهي مقتبسة من إحدى خطابات معمّر القذافي الأخيرة ،
وأغنية " مثلا " لمحمد الجبالي ونصّ كلماتها " لوصدفة قابلتك مثلا ...
وحكينا وعجبتك مثلا ... خفنا من الحساد مثلا ... حدّدنا ميعاد مثلا ...
شربنا قهيوة مثلا ..." وأغنية نبيهة كراولي " قولّي واش عاجبة فيها " في
حين تزخر الساحة التونسية كما الساحة العربيّة بالنصوص الرقيقة والملحنين
الأكفّاء القادرين على الإضافة ، وإنتاج الأعمال المتميّزة ، ولكن وهم
العصر والعصرنة ، والإيمان بما يسمّى بعصر السرعة وما يقتضيه من اعتماد
لإيقاع خفيف يتماشى مع نفسيّة المتقبّل العربي جعل ما يسمّى تفاؤلا " أغنية
عربيّة " مساحة تؤسّس للفراغ على مستوى الكلمات ، وفضاء بصريّا لانتهاك
صورة المرأة وتشكيك في جوهرها ككائن له مقوّماته الفكريّة والإنسانيّة ،
فروبي وبوسي ونجلاء وهيفاء ومشتقاتهنّ لو حذفن من ألبوماتهن مشاهد العراء
والإثارة فهل يمكن أن نتحدّث عن فنّ كحديثنا عن أعمال وردة الجزائرية
وماجدة الرومي وميّادة الحنّاوي وجورج وسوف . إنّ
الساحة الفنيّة العربيّة اليوم تشكو من اختلاط الحابل بالنابل ، كما غطّت
ثقافة الصورة بإغراءاتها وتقنياتها على ثقافة الكلمة واللحن والصوت ،
وشيّعت الأذن في عصر الصخب والميوعة الفنّ الجميل ، فهل من شروط الانخراط
حسب "فنّاني " هذا الزمان في مقولات الحداثة يكون من باب التعرّي من الحياء
والفنّ ، وهل يمكن أن ندخل إلى منطقة التحديث بالقطع مع أسس هويّتنا
الفنيّة التي تميّزنا على بقيّة الأمم ؟ ..
|